قراءة فى ديوان ندى ونوارة المستحيل

دراسة فى الشعر" من أبحاث مؤتمر ديرب نجم السابع

المفارقة وبناء العالم الشعرى


قراءة فى دواوين
(دموع وابتسامات - ندى ونوارة المستحيل


فقط يربى حماماً ويصنع برجاً حصيناً من العزلة)

أ.د/ شكرى الطوانســـــــــى

أستاذ الأدب والنقد جامعة الزقازيق


"الدموع والابتسامات"، و"نوارة المستحيل" التى ليست كذلك إلا بتعذر الممكن أو ما كان ممكناً، و"برج العزلة" الذى يتحصن –لاشك-من شىء ما قابع هناك خارجه يترصد ويهدد؛ كلها مظاهر وتجليات متعددة للمفارقة، يشيد بها كل من: "بدر بدير" و"رضا عطية" و"عبده الريس" عالمه الشعرى، إلى جانب عناصر تشييدية أخرى يتفاوت دورها وقيمتها، وتتباين هيمنتها الملموسة أو المفترضة، فى ظل التخلى عن فكرة الديوان كنسق أو مجموع متجانس منسجم من القصائد، لا حشداً لما توفر منها كيفما اتفق، وتحديداً فى ديوان "دموع وابتسامات" أكثر من غيره، رغم وعى "بدر بدير" المؤكد بفكرة النسق المتجانس فى الجزء الأعظم من ديوانه (فى: "ابتسامات ماكرة" و"حماريات").


قد تكون مصادفة! أن تتفق هذه الرؤى الشعرية الثلاثة –على غير موعد- على اختيار المفارقة بنية للوجود الشعرى فى عوالمهم! وقد تكون مماحكة نقدية! أو إسقاطاً لـ إيديولوجيا المؤول (صاحب هذه القراءة) الذى يرى أن الوجود الإنسانى ينهض بالتناقض والتعارض والتنافر، موسعاً من مقولة "د. سى. ميويك" أن: "… تجاور المتنافرات جزء من بنية الوجود…". لعلها إيديولوجيا (فكل مستخدم للغة يكتب أولاً نفسه، ولا أقول يكتب عن نفسه) حتى وإن كان هناك من "ليست له إيديولوجيا"-كما يصرح "عبده الريس"! وقد يكون العنوان ("دموع وابتسامات")، على ما فيه من مباشرة تعلن مبكراً عن عالم يعج بالمفارقات، وتقف دون إبراز عمقها ووطأتها داخل الديوان؛ قد يكون العنوان سلب المؤول الفهم، وأوقعه فى ورطة (يطلب عنها الصفح)! قد …! قد…! ولكن كيف للوجود الإنسانى أن يكون كذلك بلا مصادفة، أو إيديولوجيا، أو استلاب!!

 

فى ديوان "فقط يربى حماماً ويصنع برجاً حصيناً من العزلة" يصنع "عبده الريس" المفارقة من كسر مألوفية الأفعال والحوادث، ما تكرر منها حتى المفجع كالموت، وما كان بسيطاً ساذجاً كتربية الحمام، وغير ذلك مما يتراءى أنه أفعال وحوادث مجانية لا مبالية، تعلن –بتكررها وبساطتها- حياداً وتنصلاً من أى قصد أو معنى أو إيديولوجيا، لكنها أبداً ليست على هذا النحو. فالقصد من وراء الفعل حتمياً كان أو اختيارياً، وحتى لو كان تجاهلاً أو إخفاء أو صمتاً أو تسلية. وبحضور القصد تنفجر المفارقة.




فالذى "فقط يربى حماماً ويصنع برجاً حصيناً من العزلة" لا يركن إلى هذا فراغاً أو خلو بال وعدم اكتراث، ولكنه اختيار (إيديولوجي) يخفى عجزاً عن فهم مفارقات الوجود أو احتمالها والتعايش معها. إن ذلك الإنسان الذى يتماهى معه الشاعر إلى حد التوحد، ويظهر على أنه:




ليست له إيديولوجيا

………………




لا يلوى على شىء



فقط يربى حماماً


ويصنع برجاً حصيناً من العزلة



(الديوان، ص24)



هذا الإنسان/ الشاعر الذى تتراص أمامه الأشياء والكائنات، بلا إرادة من جانبها، ولا وعى منه أو تعقل أو انشغال، وكأن الأمر رصد محايث للموجودات؛ هذا الذى يبدو لا مبالياً، ويبدو غريباً، كسيف البال، متعباً، يفتقد الدفء- ليس منعزلاً ومتحصناً ببرجه عما يحيط به، ليس بمنأى عن واقعه وزمنه وتاريخه. لقد أذهله ما أصاب الزمن/ التاريخ – غير آسف – من غفلة واضطراب فى الذاكرة. لم يعد الزمن/ التاريخ فعلاً للتذكر والديمومة والتواصل، بل صار نسياناً وانقطاعاً وتجاهلاً:




إلى أبى الذى مات




فى غفلة من الزمن



-العظماء الحقيقيون لا يذكرهم التاريخ-


(الديوان، ص6)

 

هذه المفارقة (ذاكرة الزمن/ ذاكرة النسيان والغفلة) تتصدر العالم الشعرى/ الديوان، وتشكل واحدة منالتاريخ عتباته الأولى (أى الإهداء).




وكما يخرج الزمن/ التاريخ –المؤطر للوجود وأحد شرطيه – عن طبيعته، يخرج كل شىء، بما فى ذلك الإنسان، عن طبائعه وعاداته ومألوفاته، ويتبدل إلى النقيض. فالغمامة الكبيرة التى ينتظر (قطعاً) سقوطها، لم تعد تمطر حتى فى يناير. والبهجة، وكذلك كل ماهو طازج/ نيئ، امتدت إليه الصنعة، وغدا مطبوخاً. والإنسان يخرج على غير عادته، منسلاً من البيت، دون أن يلقى تحية الصباح على الجيران، وسوف يترك للمرة الأولى الوردة التى تنط من الشباك تهوى على الأرض. والأبله البدنية تنكمش، وكذلك جدول الحصص، كما يتخلى الحارس عن هيبته… إلخ. لقد انكشف كل ما هو اعتيادى وطبيعى على غير حقيقته المألوفة، انكشف على نقيضها، أو على خوائها ولا معناها، أو على معنى لم يكن مدركاً من قبل فيه.




لقد انكسرت العادة والألفة بالموجودات والأفعال، وانحلت معه المعرفة بالذات والوجود، ومن ثم سيحاصر الفشل أية رغبة أو سعى نحو المعرفة، أو الحياة، أو الحبيبة، أية محاولة للتبصر أو التعرف أو استشراف ما هو مأمول:


وعندما أفشل فى رصد حبيبة وحياة



أصنع واحدة من الريح



أرتمى عند قدميها

 

بينما تعزف على هارب الروح



موسيقى



لبلاد أخرى



(الديوان، ص12)

 

ولن يعدو تجاوز الفشل إلا أن يكون وهماً، فكل الحلول المطروحة ليست بالإمكان. ففى الرحيل إلى بلاد أخرى مفارقة للروح وانفصال عنها؛ وفى البقاء معاناة وخوف وفقر، إذ لم تعد (الدولة) تمنح أفرادها الأمن والحماية والغنى، أو حتى الشكر، لم تعد ملاذاً وسكناً آمناً لهم، لم تكن كياناً يستوعبهم، وكانوا هم أنفسهم مدركين ذلك، ومن ثم تبرأوا منها، ولكنهم تظاهروا بالتوافق معها، غير أن هذا التحايل لم يبعدهم عن أذاها، فالدولة أذى وقهر ورغب وتيه وضياع. إنها "أمنا الغولة":




"أمنا الغولة" تتزلج على الجليد




ونحن عمال القدر




تبرأنا منها




ومع ذلك




مرت فوق رقابنا كعجلة




(الديوان، ص18)




وفى المعركة خسارة محققة، ليس عن ضعف، ولا لضراوة المعركة، بل بسبب الخيانة، وتغير ملامح المحارب وأخلاقه، وتغير وجه المعركة، إذا أصبحت المعركة تنتهى بجنودها وأبطالها إلى أشباح ومسوخ مشوهة ومصلوبة:




-لابد من اكتساب عاهة




كفقد ساق مثلاً




لتبدو كما لو كنت بطلاً بصقته المعركة




(الديوان، ص14)




وحتى الموت الذى يبدو أنه يحتفظ بقدر من الأمل الحقيقى اليافع فى النجاة والسلامة، على نحو لا تحظى به الحياة التى فسدت؛ الموت وحده ليس كافياً، حيث تحول إلى فعل اعتيادى فارغ المعنى، بلا وقع أو أثر، لا يدعو إلى التوقف والالتفات، بل إن (انفجار دانة) -مثلاً- أشد وقعاً من الموت ذاته:




كان يجب أن تلفت الانتباه إليك




بصوت أكبر




كانفجار دانة مثلاً




(الديوان، ص22)




فلا يبقى –إذن- غير الصمت والعزلة والتلهى (فقط يرى حماماً…)، ليس تجاهلاً، بل قراراً واختياراً لنوع من المجابهة الواعية. إنه تورط بدرجة ما.




أما المفارقة عند "رضا عطيه"




فهى لا تظهر فيما يمكن أن يضمه العالم (الشعرى) من تناقضات ومتنافرات، وإنما تتحقق من خلال تعلق الشاعر بالمستحيل (المفارق للواقعى والممكن والمحتمل)، ومراودته، واشتهائه، وأحياناً مواجهته. وليست هيمنة صيغ الاستفهام وطغيانها داخل الديوان (ندى ونوارة المستحيل)، غير المعنية بمخاطب، وغير المدفوعة –يأساً- إلى جواب؛ ليست سوى محاولة محمومة لنزع الاحتمالية عن الممكنات، إذ تبدو محاطة بياس الجواب، أو بلا –حدواه. فلم يكن السؤال نقصاً فى المعرفة، وإشراكاً للآخر من أجل استكمالها، ولكنه اندفاع دؤوب نحو تيه مشتبه ملغز يؤكد قطيعة مع الواقع/ الحياة، ومفارقة لها، أكثر مما يعد استكشافاً لها، وتعرفاً عليها، وامتلاكاً للوعى بها:




- وللمستحيل اشتهاء




وللعازفين عن الخلد فرط البكاء.




(الديوان، ص37)




-وأشعر أن الحياة رماد




وتحت الرماد وقود عنيد




يضج بأركان صدرى الثكالى




ويلعن كل المغاليق.. كل السدود




أما زال فى الكون هذى الحدود؟!




……




أنا ما ذهبت لنوارة المستحيل مستجديا




ولكن دعتنى لأستاف من عطرها المرمى/




اقبل بالقرب من سحرها أمنياتى




(الديوان، ص44، 45)




وبمفارقة الحياة/ الواقع إلى عالم المستحيل، يكون التعالى فوق الهموم والأحزان والجحيم، يكون التعالى عند معرفة سر الشقاء والعناء. وهنا يتوازى عالم الحب والصبابة والشوق – الذى يرافق معظم القصائد بصورة كثيراً ما تبدو مألوفة ومتداولة أو متوارثة- مع المستحيل، على نحو يغدو الحب مستحيلاً، قيمة مفتقدة وضائعة، لا سيبل إليها إلا بدوام التعليق والقطع والتشوف. وتضعف التأكيدات على تحقق الحب، أمام كثرة الاستفهامات بما تحمله من ريبة أو ظن أو استنكار. فتأكيد الشاعر على انضمامه إلى فريق العشاق:




-أنا لا أحس بأننى فى هذه الساحات ضيف




فأنا تحركنى الصبابة نحوكم




………………




أحس أنى فى رياضكم ندى




وأحس أنى فى سمائكم سحاب




وكأننى أصبحت إكليل الأمانى العذاب




أنا لن أغادر جمعكم




طوبى لكم




وتقبلوا منى السلام




فأنا مكانى بينكم




(الديوان، ص8، 9)




مثل هذا التأكيد على عدم مغادرته جمع العشاق لا يقنع –ببساطته وعموميته وصوره المستهلكة – بقبوله، ولا تفلح القصيدة كلها –بالتالى- فى إزاحة التساؤل- باتجاه جواب ما – الذى يظل ملازماً لعنوان القصيدة "هل لى مكان بينكم". وهكذا الحال فى قصيدة "وشوشات"، حيث لا تلبث سريعاً الصبابة/ الدعابة التى تتراءى أن تغدو مستحيلاً غير متحقق.




إن الشاعر مسكون بوطأة المستحيل وشهوته، ولا سبيل له إلا مراودة هذا المستحيل ومواجهته، بتساؤلات متكررة متتابعة لا انقطاع لها، وبصوره مستهلكة متوارثة عساها تعينه قليلاً على المهاجمة.




وتأخذ المفارقة بعداً تهكمياً نقدياً ساخراً عند "بدر بدير"




فى ديوان "دموع وابتسامات"، على نحو لا ترتقى إليه دلالة العنوان، وبعيداً عن كثير من قصائده ذات الطابع الاحتفالى، التى تتغنى بقيم الحب وسعادته وبهجته، والشهادة، والإيمان، والعفة، والوطنية، والقومية، وحسن الجوار… إلخ.




يواجه "بدر بدير" تفاهة الواقع ونثريته بتهكمية ساخرة، من خلال صور ورموز فى (ابتسامات ماكرة) و(حماريات)، حيث تتظاهر الذات/ الشاعر بالحياد والابتعاد والانفصال، وتنفى عن نفسها انفعالاً أو تأثراً أو تعاطفاً، لكنها تحتفظ لنفسها بحقها كاملاً فى الاستهزاء والتمسخر.




مكابر




بعدما حطمت يده منخاره




صاح من بعدها بكل جساره




ارفعوه من فوق صدرى وإلا




بحذائى سحقته كالسيجاره




(الديوان، ص74)




-أسعدتنى كلما شئت بأحلى قبلة




من فم عذب رقيق وشهى البسمة




ولذا فى السر قد قلت هامسا




عندما أخطب لا لا لن تكونى زوجتى




(الديوان، ص85)




فى هذه المفارقات التصويرية الساخرة تناول للقيم ذاتها المطروحة فى قصائد الديوان الأخرى ذات الطابع الاحتفالى الصريح، ولكن هنا جمع ساخر للنقيضين، لا نفى قاطع لأحدهما، ولا حسم، ولا إيحاء، بل إقرار بتناقض الواقع/ البشر، وتأجيل لمعناه أو تفسيره، فالجميع متورطون فيه، يتعايشون معه، ويعيشون به.




وتضع المفارقة عالم الحمير فى (حماريات) متماساً، بل متوازياً، مع عالم البشر، حيث يكون البشر (السادة) دون فهم لغة الحمير وقانونهم ومعاناتهم ومستقبلهم وأحلامهم. وهم بذلك عاجزون عن فهم أنفسهم وعالمهم، وكأن الحمير صارت ذلك الآخر الذى يرى فيه البشر أنفسهم من خلاله (وليتهم يستطيعون!)، وهو ما لا يغيب عن وعى الحمير:




-أمتعته أشبعته لكنه




فى غلظة بنابه أدمانى




ثم تولى غاضباً وناهقا




وجاحداً ومنكراً حنائى




لأننى من ألمى شبته




فى فعله بقسوة الإنسان




(الديوان، ص95)




هنا تأخذ السخرية (سخرية الحمير) من العالم الإنسانى شكلاً معلناً صارخاً، وأحياناً تتخفى، كما فى (تنمية):




-إذا أردتم الرخاء والنماء يا صحابى




عليكم بكثرة النهيق والإنجاب




(الديوان، ص100)




فمفهوم التنمية، وهو لاشك فعل إنسانى، يتحدد فى النهيق والإنجاب، أى فى ارتفاع الصوت مطالبة بالطعام والشراب (واللباس)، تحقيقاً للإنجاب، إذ إن (الجوع هد نطفة الذكور فى الأصلاب). وهكذا تتنوع أشكال الإحالة إلى الإنسانى داخل عالم الحمير، من خلال مفارقات تتظاهر كثيراً بعدم المفاضلة، لكنها لا تخفى سخريتها من عالم البشر.